فصل: مناسبة الآية لما قبلها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد لغوية وإعرابية:

قال مجد الدين الفيروزابادي:
بصيرة في نبت:
النَّبْت، والنَّبَات بمعنى.
ونَبَت البقلُ.
والمَنْبِت: موضع النبات.
والنَّوابِت من الأَحداث: الأَغمار.
وأَنْبَتَت الأَرضُ النباتَ.
وأَنْبَتَ البقلُ، أَى نَبَت، ويُروى قول زُهَير بالوجهين:
إِذا السَّنَةُ الغَرَّاُءُ بالناس أَجْحَفت ** ونال كِرامَ المالِ في الجَحْرة الأكْلُ

رأَيتَ ذَوِى الحاجات فوق بيوتهم ** قطِيناً لهم حَتَّى إِذا أَنْبَتَ البقلُ

هُنالِك إِنْ يُستخْبَلُوا المالَ يُخْبِلوا ** وإن يُسأْلُوا يُعطوا وإِن يَيْسِروا يُغْلوا

وأَنكر الأَصمعّى أَنبت البقلُ وقال: لا أَعرف إلاَّ نبت البقلُ، ولا يقول عربىّ: أَنْبَت في معنى نَبَت.
وأَنْبَتَه اللهُ فهو مَنْبُوت على غير قياس.
وأَنْبَتَ الغُلامُ: راهَقَ واستبان شَعَر عانَته.
والنبات عامُّ في كلّ ما يَنْبُت، لكن صار في التعارف اسماً لما لا ساق له، بل اختصّ بما يأكله الحيوانات، وعلى هذا قوله تعالى: {لِّنُخْرِجَ بِهِ حبًّا وَنَبَاتاً}.
ومتى اعتُبرت الحقائق فإِنه يُستعمل في كلّ نامٍ، نباتاً كان أَو حيواناً أَو إِنساناً، والإنبات يستعمل في كلّ ذلك قال تعالى: {وَاللَّهُ أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتاً} قال النحويّون: (نباتاً) موضوع موضع الإِنبات وهو مصدر، وقيل: (نباتاً) حال لا مصدر، ونبّه بذلك أَنّ الإِنسان مِن وجهٍ نباتٌ من حيث إِنّ بدأَه ونشأَه من التّراب.
(ونمّوه فيه)، وعلى هذا نبّه بقوله: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ}.
ونَبَّت الشجرَ تنبيتاً: غَرَسَه، والصّبىَّ: ربّاه.
والتَنْبِيت: اسمٌ لما يَنْبت من دِقّ الشجر وكِباره، قال رؤبة:
مَرْتٌ يُناصى خَرْقَها مَرُوتُ ** صَحْراءُ لم يَنْبُت بها تَنْبيتُ

اهـ.

.تفسير الآيات (17- 30):

قوله تعالى: {إِنَّ يوم الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17) يوم يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما ذكر ما دل على غاية القدرة ونهاية الحكمة فدل قطعاً على الوحدانية لأنه لو كان التعدد لم تكن الحكمة ولم تتم القدرة، فأثمر المحبة لمن اتصف بذلك، فأنتج للطائع الشوق إلى لقائه والترامي إلى مطالعة كمال نعمائه، وللعاصي ما هو حقيق به من الخوف من لقائه ليرده ذلك عن إعراضه وإبائه، أتبع ما أعلم أنه ما ذكره إلا للدلالة على النبأ العظيم في لقاء العزيز الرحيم، فقال منتجاً عما مضى من الوعيد وما دل على تمام القدرة مؤكداً لأجل إنكارهم: {إن يوم الفصل} أي الذي هو النبأ العظيم، وتقدم الإنذار به في المرسلات وما خلق الخلق إلا لجمعهم فيه وإظهار صفات الكمال ليفصل فيه بين كل ملبس فصلاً لا شبهة فيه ويؤخذ للمظلوم من الظالم {كان} أي في علم الله وحكمته كوناً لابد منه جعل فيه كالجبلة في ذوي الأرواح {ميقاتاً} أي حدًّا يوقت به الدنيا وتنتهي عنده مع ما فيها من الخلائق.
ولما ذكره، ذكر ما فيه تعظيماً له وحثاً على الطاعة فقال مبدلاً منه أو مبيناً له: {يوم} ولما كان الهائل المفزع النفخ، لا كونه من معين، بنى للمفعول قوله: {ينفخ} أي من نافخ أذن الله له {في الصور} وهو قرن من نور على ما قيل سعته أعظم ما بين السماء والأرض وهي نفخة البعث وهي الثانية من النفخات الأرض كما مر في آخر الزمر، ولذلك قال: {فتأتون} أي بعد القيام من القبور إلى الموقف أحياء كما كنتم أول مرة لا تفقدون من أعضائكم وجلودكم وأشعاركم وأظفاركم وألوانكم الأصلية شيئاً يجمعكم من الأرض بعد أن تمزقتم فيها، واختلط تراب من بلي منكم بترابها وتراب بعضكم ببعض، وتمييز ذلك وجمعه وتركيبه كما كان وإعادة الروح فيه يسير عليه سبحانه وتعالى كما فعل ذلك كله من نطفة بعد أن فعله في آدم عليه السلام من تراب لا أصل له في الحياة، حال كونكم {أفواجاً} أي أمماً وزمراً وجماعات مشاة مسرعين كل أمة بأمامها، روى الثعلبي وابن مردويه عن البراء رضى الله عنهم- وقال شيخنا ابن حجر في ترجمة محمد بن زهير في لسان الميزان: إنه ظاهر الوضع- أن معاذاً رضى الله عنه سأل عن هذه الأفواج فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن أمتي تحشر على عشرة أصناف: على صور القردة، وعلى صور الخنازير، وبعض منكسون يسحبون على وجوههم، وبعض عمي وبعض صم بكم، وبعض يمضغون ألسنتهم، فهي مدلاة على صدورهم يسيل القيح من أفواههم يتقذرهم أهل الجمع، وبعض منقطعة أيديهم وأرجلهم، وبعض مصلوبون على جذوع من نار، وبعض أشد نتناً من الجيف، وبعض ملبسون جباباً سابغة من قطرن لازقة بجلودهم، فسرهم بالقتات وآكلي السحت وأكلة الربا والجائرين في الحكم والمعجبين بأعمالهم والعلماء الذين يخالف قولهم فعلهم والمؤذين للجيران والساعين بالناس للسلطان، والتابعين للشهوات المانعين حق الله تعالى والمتكبرين خيلاء».
ولما ذكر الآية في أنفسهم ذكر بعض آيات الآفاق، وبدأ بالعلوي لأنه أشرف فقال بانياً للمفعول لأن المفزع مطلق التفتيح، ولأن ذلك أدل على قدرة الفاعل وهوان الأمور عليه: {وفتحت السماء} أي شقق هذا الجنس تشقيقاً كبيراً، وقرأ الكوفيون بالتخفيف لأن التكثير يدل عليه ما سبب عن الفتح من قوله: {فكانت} أي كلها كينونة كأنها جبلة لها {أبواباً} أي كثيرة جدًّا لكثرة الشقوق الكبيرة بحيث صارت كأنها لا حقيقة لها إلا الأبواب.
ولما ذكر السقف، ذكر أقرب الأرض إليه وأشدها، فقال على طريقة كلام القادرين أيضاً: {وسيرت} أي حملت بأيسر أمر على السير {الجبال} على ما تعلمون من صلابتها وصعوبتها في الهواء كأنها الهباء المنثور، وعلى ذلك دل قوله: {فكانت} أي كينونة راسخة {سراباً} أي لا نرى فيها إلا خيالاً يتراءى وهي سائرة تمر مر السحاب ثم تخفى لتناثر أجزائها كالهباء- يا لها من عظمة تجب لها القلوب وتتعاظم الكروب.
ولما بين أن يوم الفصل هو النبأ العظيم بعد أن دل عليه وذكر ما فيه من المسير، ذكر ما إليه من الدارين المصير، فقال بعد التذكير بما في الجبال من العذاب بحزونتها وما فيها من السباع والحشرات والأشجار الشائكة والقواطع المتشابكة وغير ذلك من عجائب التقدير مؤكداً لتكذيبهم: {إن جهنم} أي النار التي تلقى أصحابها متجهمة لهم بغاية ما يكرهون {كانت} أي جبلة وخلقاً {مرصاداً} أي موضع رصد لأعداء الله ترصدهم فيها خزنة النار، فإذا رأوهم كردسوهم فيها، ولأولياء الله ترصدهم فيها خزنة الجنة لإنجائهم من النار عند ورودها أو هي راصدة بليغة الرصد للكفار حتى صارت مجسدة من الرصد لتجمع أصحابها فلا يفوت منهم واحد كالمطعان لكثير الطعن، والمكثار للمبالغ في الإكثار، وعن ابن عباس- رضى الله عنهما- أن على جسر جهنم سبعة مجالس يسأل عند أولها عن شهادة أن لا إله إلا الله، فإن جاء بها تامة جاز إلى الثاني فيسأل عن الصلاة، فإن جاء بها تامة جاز إلى الثالث فيسأل عن الزكاة فإن جاء بها تامة جاز إلى الرابع فيسأل عن الصوم، فإن جاء به تاماً جاز إلى الخامس فيسأل عن الحج، فإن جاء به تاماً جاز إلى السادس فيسأل عن العمرة فإن جاء بها تامة جاز إلى السابع فينسأل عن المظالم، فإن خرج منها وإلا قيل: انظروا فإن كان له تطوع تكمل به أعماله.
فإذا فرغ انطلق به إلى الجنة.
ولما كان درء المفاسد أولى من جلب المصالح، قدم ذكر المخوف فقال: {للطاغين} أي المجاوزين لحدود الله {مآباً} أي مرجعاً ومأوى بعد أن كان الله ذرأهم لها فكأنهم كانوا فيها ثم هيأهم للخروج منها والبعد عنها بفطرهم الأولى، ثم بما أنزل الله من الكتب وأرسل من الرسل فكأنه بذلك أخرجهم منها، ثم رجعوا إليها بما أحدثوا من التكذيب.
ولما ذكر مصيرهم إليها ذكر إقامتهم فيها فقال حالاً من ضمير (الطاغين): {لابثين فيها} ولما كان جمع القلة يستعار للكثرة فكان الحقب يطلق على الزمان من غير حد، ويطلق على زمان محدود، فقيل على ثمانين سنة، وعلى سبعين ألف سنة، فكان السياق من تصدير السورة بالنبأ وبوصفه مع التعبير بالنبأ العظيم وما بعد ذلك يفهم أن المراد الدوام إن أريد ما لا حد له وأن المراد إن أريد المحدود جمع الكثرة، وأكثر ما فسر به الحقب، وأنه للمبالغة لا التحديد، كان جمع القلة هنا غير مشكل، فمن حمله على ما دون ذلك فكفاه زاجراً لم يضره التعبير به، ومن اجترأ عليه واستهان به كان فتنة له كما كان حصر عدد الخزنة للنار بتسعة عشر فلم يضر إلا نفسه، فلذلك عبر عن ظرف اللبث بقوله: {أحقاباً} أي دهوراً عظيمة متتابعة لا انقضاء لها على أن التبعير به- ولو حمل على الأقل وجعل منقضياً- لا ينافي ما صرح فيه بالخلود لأنه أثبت شيئاً ولم ينف ما فوقه، وعن الحسن أنه قال: لا يكاد يذكر الحقب إلا حيث يراد تتابع الأزمنة وتواليها من غير انقضاء.
ولما كان المسكن لا يصلح إلا بالاعتدال والماء الذي هو حياة كل شيء، قال ذاكراً حال هذا اللبث: {لا يذوقون} أي ساعة ما فكيف بما فوق الذوق {فيها} أي النار خاصة، وكأنه أشار بتقديمه إلى أنهم يذوقون في دار أخرى الزمهرير {برداً} أي روحاً وراحة لنفعهم من الحر أو مطلق البرد {ولا شراباً} من ماء أو غيره يغنيهم من العطش على حال من الأحوال {إلا} حال كون ذلك الشراب {حميماً} أي ماء حاراً يشوي الوجوه قد انتهى حره {و} حال كون ذلك الشراب مع حرارته، أو البر د {غساقاً} أي عصارة أهل النار من القيح والصديد البارد المنتن، فالاستثناء على هذا موزع الحميم من الشراب والغساق من البرد، فالحميم شرابهم في دولة السعير، والغساق في دولة الزمهرير.
ولما حكم عليهم بهذا العذاب الذي لا يطاق، ذكر حكمته فقال إنه جزاهم بذلك {جزاء وفاقاً} أي ذا وفاق لأعمالهم لأنهم كانوا يأخذون أموال الناس فيحرقون صدورهم عليها ويبردون بها الشراب ويصفونه ويبخرونه، فهم يحرقون الآن بعصارة غيرهم المنتنة، وكأنهم بعد الأحقاب- إن جعلت منقضية- يبدلون عذاباً غير الحميم والغساق، ثم علل عذابهم بقوله، مؤكداً تنبيهاً على أن الحساب من الوضوح بحالة يصدق به كل أحد، فلا يكاد يصدق أن أحدًّا يكذب به فلا يجوزه فقال: {إنهم كانوا} أي بما هو لهم كالجبلة التي لا تقبل غير ذلك فهم يفسدون القوى العلمية بأنهم {لا يرجون} أي في حال من الأحوال ولو رأوا كل آية {حساباً} فهم لا يعملون بغير الشهوات، فوافق هذا خلودهم في النار، وعبر عن تكذيبهم بنفي الرجاء لأنه أبلغ، وذلك لأن الإنسان يطمع في الخير بأدنى احتمال.
ولما دل انتفاء رجائهم على تكذيبهم المفسد للقوة العلمية، صرح به على وجه أعم فقال: {وكذبوا بآياتنا} أي على ما لها من العظمة الدالة أنها من عندنا {كذاباً} أي تكذيباً هو في غاية المبالغة بحيث لو سمعوا أكذب الكذب ما كذبوا به كما كذبوا بها، فكان تجريعهم لما لا يصح أن يشربه أحد- وإن جرع منه شيئاً مات في الحال من غير موت- لهم جزاء على تكذيبهم بالحوارق التي يجرعون بها الصادقين أنواع الحرق، وقرئ بالتخفيف للدلالة على أنهم كذبوا في تكذيبهم.
ولما كان التقدير: فكل شيء جعلنا له وزاناً، عطف عليه قوله: {وكل شيء} أي مطلقاً من أعمالهم وغيرها أو كل ما يقع عليه الحساب {أحصيناه} ولما كان الإحصاء موافقاً للكتابة في الضبط، أكد فعله بها فقال: {كتاباً} فلا جائز أن نترك شيئاً من الأشياء بغير جزاء، ويمكن تنزيل الآية على الاحتباك وهو أحسن: دل فعل الإحصاء على حذف مصدره، وإثبات مصدر (كتب) عليه أي أحصيناه إحصاء وكتبناه كتاباً، وذلك الإحصاء والكتب لعدم الظلم.
ولما ذكر عذابه ووجه موافقته لجزائهم، سبب عن تكذيبهم ما يقال لهم بلسان الحال أو المقال إهانة وزيادة في الجزاء على طريق الالتفات المؤذن بشدة الخزي والغضب عليهم وكمال القدرة له سبحانه وتعالى فقال: ويجوز أن يكون سبباً عن مقدر بعد {كتاباً} نحو: ليجازيهم على كل شيء منه، قائلاً لهم على لسان الملائكة أو لسان الحال: {فذوقوا} أي من هذا العذاب في هذا الحال بسبب تكذيبكم بالحساب، وأكد ذوقهم في الاستقبال فقال: {فلن نزيدكم} أي شيئاً من الأشياء في وقت من الأوقات {إلا عذاباً} فإن داركم ليس بها إلا الجحيم كما أن الجنة ليس بها إلا النعيم، فافهم هذا أن حصول شيء لهم غير العذاب محال. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

ثم إنه تعالى ذكر بعض أحوال القيامة فأولها: قوله: {إن يوم الفصل كان ميقاتاً}
والمعنى أن هذا اليوم كان في تقدير الله، وحكمه جدًّا تؤقت به الدنيا، أو حدًّا للخلائق ينتهون إليه، أو كان ميقاتاً لما وعد الله من الثواب والعقاب، أو كان ميقاتاً لاجتماع كل الخلائق في فصل الحكومات وقطع الخصومات.
وثانيها: قوله تعالى: {يوم يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا}.
اعلم أن {يوم ينفخ} بدل من يوم الفصل، أو عطف بيان، وهذا النفخ هو النفخة التي عندها يكون الحشر، والنفخ في الصور فيه قولان: أحدهما: أن الصور جمع الصور، فالنفخ في الصور عبارة عن نفخ الأرواح في الأجساد والثاني: أن الصور عبارة عن قرن ينفخ فيه.
وتمام الكلام في الصور وما قيل فيه قد تقدم في سورة الزمر، وقوله: {فتأتون أفواجاً} معناه أنهم يأتون ذلك المقام فوجاً فوجاً حتى يتكامل اجتماعهم.
قال عطاء كل نبي يأتي مع أمته، ونظيره قوله تعالى: {يوم ندعوا كل أناس بإمامهم} [الإسراء: 71] وقيل جماعات مختلفة، روى صاحب (الكشاف) عن معاذ أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه، فقال عليه السلام: «يا معاذ سألت عن أمر عظيم من الأمور، ثم أرسل عينيه وقال: يحشر عشرة أصناف من أمتي بعضهم على صورة القردة، وبعضهم على صورة الخنازير، وبعضهم منكسون أرجلهم فوق وجوههم يسحبون عليها، وبعضهم عمى، وبعضهم صم بكم، وبعضهم يمضغون ألسنتهم وهي مدلاة على صدورهم يسيل القيح من أفواههم يتقذرهم أهل الجمع، وبعضهم مقطعة أيديهم وأرجلهم، وبعضهم مصلبون على جذوع من نار، وبعضهم أشد نتناً من الجيف، وبعضهم ملبسون جباباً سابغة من قطران لازقة بجلودهم.
فأما الذين على صورة القردة فالقتات من الناس.
وأما الذين على صورة الخنازير فأهل السحت.
وأما المنكسون على وجوههم فأكلة الربا، وأما العمى فالذين يجورون في الحكم، وأما الصم والبكم فالمعجبون بأعمالهم، وأما الذين يمضغون ألسنتهم فالعلماء والقصاص الذين يخالف قولهم أعمالهم، وأما الذين قطعت أيديهم وأرجلهم فهم الذين يؤذون الجيران وأما المصلبون على جذوع من النار فالسعاة بالناس إلى السلطان، وأما الذين هم أشد نتناً من الجيف فالذين يتبعون الشهوات واللذات ومنعوا حق الله تعالى من أموالهم، وأما الذين يلبسون الجباب فأهل الكبر والفخر والخيلاء»
.
وثالثها قوله تعالى: {وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا}.
قرأ عاصم وحمزة والكسائي فتحت خفيفة والباقون بالتثقيل والمعنى كثرت أبوابها المفتحة لنزول الملائكة قال القاضي: وهذا الفتح هو معنى قوله: {إذا السماء انشقت} [الانشقاق: 1] {وإذا السماء انفطرت} [الانفطار: 1] إذ الفتح والتشقق والتفطر، تتقارب، وأقول: هذا ليس بقوي لأن المفهوم من فتح الباب غير المفهوم من التشقق والتفطر، فربما كانت السماء أبواباً، ثم تفتح تلك الأبواب مع أنه لا يحصل في جرم السماء تشقق ولا تفطر، بل الدلائل السمعية دلت على أن عند حصول فتح هذه الأبواب يحصل التشقق والتفطر والفناء بالكلية، فإن قيل قوله: {وفتحت السماء فكانت أبواباً} يفيد أن السماء بكليتها تصير أبواباً، فكيف يعقل ذلك؟ قلنا فيه وجوه: أحدها: أن تلك الأبواب لما كثرت جداف صارت كأنها ليست إلا أبواباً مفتحة كقوله: {وفجرنا الأرض عيوناً} [القمر: 12] أي كأن كلها صارت عيوناً تتفجر وثانيها: قال الواحدي هذا من باب تقدير حذف المضاف، والتقدير فكانت ذات أبواب وثالثها: أن الضمير في قوله: {فكانت أبواباً} عائد إلى مضمر والتقدير فكانت تلك المواضع المفتوحة أبواباً لنزول الملائكة، كما قال تعالى: {وجاء ربك والملك صفاً صفاً} [الفجر: 22].
ورابعها: قوله تعالى: {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا} اعلم أن الله تعالى ذكر في مواضع من كتابه أحوال هذه الجبال على وجوه مختلفة، ويمكن الجمع بينها على الوجه الذي نقوله: وهو أن أول أحوالها الاندكاك وهو قوله: {وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة} [الحاقة: 14].
والحالة الثانية لها: أن تصير {كالعهن المنفوش} [القارعة: 5] وذكر الله تعالى ذلك في قوله: {يوم يكون الناس كالفراش المبثوث وتكون الجبال العهن المنفوش} [القارعة: 4، 5] وقوله: {يوم تكون السماء كالمهل وتكون الجبال كالعهن} [المعارج: 8 9].
والحالة الثالثة: أن تصير كالهباء وذلك أن تتقطع وتتبدد بعد أن كانت كالعهن وهو قوله: {إذا رجت الأرض رجاً وبست الجبال بساً فكانت هباءاً منبثاً} [الواقعة: 4 6].
والحالة الرابعة: أن تنسف لأنها مع الأحوال المتقدمة قارة في مواضعها والأرض تحتها غير بارزة فتنسف عنها بإرسال الرياح عليها وهو المراد من قوله: {فقل ينسفها ربي نسفاً} [طه: 105].
والحالة الخامسة: أن الرياح ترفعها عن وجه الأرض فتطيرها شعاعاً في الهواء كأنها غبار فمن نظر إليها من بعد حسبها لتكاثفها أجساماً جامدة وهي الحقيقة مارة إلى أن مرورها بسبب مرور الرياح بها (صيرها) مندكة متفتتة، وهي قوله: {تمر مر السحاب} [النحل: 88] ثم بين أن تلك الحركة حصلت بقهره وتسخيره، فقال: {ويوم نسير الجبال} [الطور: 10] {وترى الأرض بارزة} [الكهف: 47].
الحالة السادسة: أن تصير سراباً، بمعنى لا شيء، فمن نظر إلى مواضعها لم يجد فيها شيئاً، كما أن من يرى السراب من بعد إذا جاء الموضع الذي كان يراه فيه لم يجده شيئاً، والله أعلم.
واعلم أن الأحوال المذكورة إلى هاهنا هي: أحوال عامة، ومن هاهنا يصف أهوال جهنم وأحوالها.
المسألة الأولى:
قرأ ابن يعمر: {أن جهنم} بفتح الهمزة على تعليل قيام الساعة، بأن جهنم كانت مرصاداً للطاغين، كأنه قيل كان كذلك لإقامة الجزاء.
المسألة الثانية:
كانت مرصاداً، أي في علم الله تعالى، وقيل صارت، وهذان القولان نقلهما القفال رحمه الله تعالى، وفيه وجه ثالث ذكره القاضي، فإنا إذا فسرنا المرصاد بالمرتقب، أفاد ذلك أن جهنم كانت كالمنتظرة لمقدومهم من قديم الزمان، وكالمستدعية والطالبة لهم.
المسألة الثالثة:
في المرصاد قولان: أحدهما: أن المرصاد اسم للمكان الذي يرصد فيه، كالمضمار اسم للمكان الذي يضمر فيه الخيل، والمنهاج اسم للمكان الذي ينهج فيه، وعلى هذا الوجه فيه احتمالان: أحدهما: أن خزنة جهنم يرصدون الكفار والثاني: أن مجاز المؤمنين وممرهم كان على جهنم، لقوله: {وإن منكم إلا واردها} [مريم: 71] فخزنة الجنة يستقبلون المؤمنين عند جهنم، ويرصدونهم عندها.
القول الثاني: أن المرصاد مفعال من الرصد، وهو الترقب، بمعنى أن ذلك يكثر منه، والمفعال من أبنية المبالغة كالمعطار والمعمار والمطعان، قيل إنها ترصد أعداء الله وتشق عليهم، كما قال تعالى: {تكاد تميز من الغيظ} [الملك: 8] قيل ترصد كل كافرة ومنافق، والقائلون بالقول الأول.
استدلوا على صحة قولهم بقوله تعالى: {إن ربك لبالمرصاد} [الفجر: 14] ولو كان المرصاد نعتاً لوجب أن يقال: إن ربك لمرصاد.
المسألة الرابعة:
دلت الآية على أن جهنم كانت مخلوفة لقوله تعالى: {إن جهنم كان مرصاداً} أي معدة، وإذا كان كذلك كانت الجنة أيضاً كذلك، لأنه لا قائل بالفرق.
وفيه وجهان: إن قلنا إنه مرصاد للكفار فقط كان قوله: {للطاغين} من تمام ما قبله، والتقدير إن جهنم كانت مرصاداً للطاغين، ثم قوله: {مآباً} بدل من قوله: {مرصاداً} وإن قلنا بأنها كانت مرصاداً مطلقاً للكفار وللمؤمنين، كان قوله: {إن جهنم كانت مرصاداً} [النبأ: 21] كلاماً تاماً، وقوله: {للطاغين مآباً} كلام مبتدأ كأنه قيل إن جهنم مرصاد للكل، ومآب للطاغين خاصة، ومن ذهب إلى القول الأول لم يقف على قوله مرصاداً أما من ذهب إلى القول الثاني وقف عليه، ثم يقول المراد بالطاغين من تكبر على ربه وطغى في مخالفته ومعارضته، وقوله: {مآباً} أي مصيراً ومقرا.
اعلم أنه تعالى لما بين أن جهنم مآب للطاغين، وبين كمية استقرارهم هناك، فقال: {لابثين فيها أحقاباً} وهاهنا مسائل:
المسألة الأولى:
قرأ الجمهور: {لابثين} وقرأ حمزة {لبثين}.
وفيه وجهان قال الفراء هما بمعنى واحد يقال لابث ولبث، مثل ثامع، وطمع، وفاره، وفره، وهو كثير، وقال صاحب الكشاف: واللبث أقوى لأن اللابث من وجد منه اللبث، ولا يقال: لبث إلا لمن شأنه اللبث، وهو أن يستقر في المكان، ولا يكاد ينفك عنه.
المسألة الثانية:
قال الفراء أصل الحقب من الترادف، والتتابع يقال أحقب، إذا أردف ومنه الحقيبة ومنه كل من حمل وزراً، فقد احتقب، فيجوز على هذا المعنى: {لابثين فيها أحقاباً} أي دهوراً متتابعة يتبع بعضها بعضاً، ويدل عليه قوله تعالى: {لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقباً} [الكهف: 60] يحتمل سنين متتابعة إلى أن أبلغ أو آنس، واعلم أن الأحقاب، واحدها حقب وهو ثمانون سنة عند أهل اللغة، والحقب السنون واحدتها حقبة وهي زمان من الدهر لا وقت له ثم نقل عن المفسرين فيه وجوه: أحدها: قال عطاء والكلبي ومقاتل عن ابن عباس في قوله: {أحقاباً} الحقب الواحد بضع وثمانون سنة، والسنة ثلثمائة وستون يوماً، واليوم ألف سنة من أيام الدنيا، ونحو هذا روى ابن عمر مرفوعاً وثانيها: سأل هلال الهجري علياً عليه السلام.
فقال الحقب مائة سنة، والسنة اثنا عشر شهراً، والشهر ثلاثون يوماً، واليوم ألف سنة وثالثها: وقال الحسن الأحقاب لا يدري أحد ما هي، ولكن الحقب الواحد سبعون ألف سنة اليوم منها كألف سنة مما تعدون: فإن قيل قوله أحقاباً وإن طالت إلا أنها متناهية، وعذاب أهل النار غير متناه، بل لو قال لابثين فيها الأحقاب لم يكن هذا السؤال وارداً، ونظير هذا السؤال قوله في أهل القبلة: {إلا ما شاء ربك} قلنا: الجواب من وجوه: الأول: أن لفظ الأحقاب لا يدل على مضي حقب له نهاية وإنما الحقب الواحد متناه، والمعنى أنهم يلبثون فيها أحقاباً كلما مضى حقب تبعه حقب آخر، وهكذا إلى الأبد والثاني: قال الزجاج: المعنى أنهم يلبثون فيها أحقاباً لا يذوقوق في الأحقاب برداً ولا شراباً، فهذه الأحقاب توقيت لنوع من العذاب.
وهو أن لا يذوقوا برداً ولا شراباً إلا حميماً وغساقاً، ثم يبدلون بعد الأحقاب عن الحميم والغساق من جنس آخر من العذاب وثالثها: هب أن قوله: {أحقاباً} يفيد التناهي، لكن دلالة هذا على الخروج دلالة المفهوم، والمنطوق دل على أنهم لا يخرجون.
قال تعالى: {يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم} [المائدة: 37] ولا شك أن المنطوق راجح، وذكر صاحب (الكشاف) في الآية وجهاً آخر، وهو أن يكون أحقاباً من حقب عامنا إذا قل مطره وخيره، وحقب فلان إذا أخطأه الرزق فهو حقب وجمعه أحقاب.
فينتصب حالاً عنهم بمعنى لابثين فيها حقبين مجدبين، وقوله: {لا يذوقون فيها برداً ولا شراباً} [النبأ: 24] تفسير له.
ورابعها: قوله تعالى: {لاَّ يَذُوقُونَ فِيَها بَرْدًا وَلاَ شَرَابًا}.
{إلاَّ حَمِيمًا وَغَسَّاقًا}.
{جَزَاءً وِفَاقًا}.
المسألة الأولى:
إن اخترنا قول الزجاج كان قوله: {لا يذوقون فيها برداً ولا شراباً} متصلاً بما قبله، والضمير في قوله: {فيها} عائداً إلى الأحقاب، وإن لم نقل به كان هذا كلاماً مستأنفاً مبتدأ، والضمير في قوله عائداً إلى {جهنم}.
المسألة الثانية:
في قوله: {برداً} وجهان الأول: أنه البرد المعروف، والمراد أنهم لا يذوقون مع شدة الحر ما يكون فيه راحة من ريح باردة، أو ظل يمنع من نار، ولا يجدون شراباً يسكن عطشهم، ويزيل الحرقة عن بواطنهم، والحاصل أنه لا يجدون هواء بارداً، ولا ماء بارداً والثاني: البرد هاهنا النوم، وهو قول الأخفش والكسائي والفراء وقطرب والعتبي، قال الفراء: وإنما سمى النوم برداً لأنه يبرد صاحبه، فإن العطشان ينام فيبرد بالنوم، وأنشد أبو عبيدة والمبرد في بيان أن المراد النوم قول الشاعر:
بردت مراشفها على فصدني ** عنها وعن رشفاتها البرد

يعني النوم، قال المبرد: ومن أمثال العرب: منع البرد البرد أي أصابني من البرد ما منعني من النوم، واعلم أن القول الأول أولى لأنه إذا أمكن حمل اللفظ على الحقيقة المشهورة، فلا معنى لحمله على المجاز النادر الغريب، والقائلون بالقول الثاني تمسكوا في إثباته بوجهين الأول: أنه لا يقال ذقت البرد ويقال ذقت النوم.
الثاني: أنهم يذوقون برد الزمهرير، فلا يصح أن يقال إنهم ما ذاوا برداً، وهب أن ذلك البرد برد تأذوا به، ولكن كيف كان، فقد ذاقوا البرد والجواب عن الأول: كما أن ذوق البرد مجاز فكذا ذوق النوم أيضاً مجاز، ولأن المراد من قوله: {لا يذوقون فيها برداً} أي لا يستنشقونه فيها نفساً بارداً، ولا هواء بارداً، والهواء المستنشق ممره الفم والألف فجاز إطلاق لفظ الذوق عليه والجواب عن الثاني: أنه لم يقل لا يذوقون فيها البرد بل قال يذوقون فيها برداً واحدًّا، وهو البرد الذي ينتفعون به ويستريحون إليه.
المسألة الثالثة:
ذكروا في الحميم أنه الصفر المذاب وهو باطل بل الحميم الماء الحار المغلي جدًّا.
المسألة الرابعة:
ذكروا في الغساق وجوهاً.
أحدها: قال أبو معاذ كنت أسمع مشايخنا يقولون الغساق فارسية معربة يقولون للشيء الذي يتقذرونه خاشاك. وثانيها: أن الغساق هو الشيء البارد الذي لا يطاق، وهو الذي يسمى بالزمهرير.
وثالثها: الغساق ما يسيل من أعين أهل النار وجلودهم من الصديد والقيح والعرق وسائر الرطوبات المستقذرة، وفي كتاب الخليل غسقت عينه، تغسق غسقاً وغساقاً.
ورابعها: الغساق هو المنتن، ودليله ما روي أنه عليه السلام قال: «لو أن دلواً من الغساق يهراق على الدنيا لأنتن أهل الدنيا».
وخامسها: أن الغاسق هو المظلوم قال تعالى: {ومن شر غاسق إذا وقب} [الفلق: 3] فيكون الغساق شراباً أسود مكروهاً يستوحش كما يستوحش الشيء المظلم، إذا عرفت هذا فنقول إن فسرنا الغساق بالبارد كان التقدير: لا يذوقون فيها برداً إلا غساقاً ولا شراباً إلا حميماً، إلا أنهما جمعاً لأجل انتظام الآى، ومثله من الشعر قول امرئ القيس:
كأن قلوب الطير رطباً ويابساً ** لدي وكرها العناب والحشف البالي

والمعنى كأن قلوب الطير رطباً العناب ويابساً الحشف البالي.
أما إن فسرنا الغساق بالصديد أو بالنتن احتمل أن يكون الاستنثاء بالحمي والغساق راجعاً إلى البرد والشراب معاً، وأن يكون مختصاً بالشراب فقط.
أما الاحتمال الأول: فهو أن يكون التقدير لا يذوقون فيها شراباً إلا الحميم البالغ في الحميم والصديد المنتن.
وأما الاحتمال الثاني: فهو أن يكون التقدير لا يذوقون فيها شراباً إلا الحميم البالغ في السخونة أو الصديد المنتن والله أعلم بمراده، فإن قيل الصديد لا يشرب فكيف استثنى من الشراب؟ قلنا: إنه مائع فأمكن أن يشرب في الجملة فإن ثبت أنه غير ممكن كان ذلك استثناء من غير الجنس ووجهه معلوم.
المسألة الخامسة:
قرأ حمزة والكسائي وعاصم من رواية حفص عنه {غساقاً} بالتشديد فكأنه فعال بمعنى سيال، وقرأ الباقون بالتخفيف مثل شراب والأول نعت والثاني اسم.
واعلم أنه تعالى لما شرح أنواع عقوبة الكفار بين فيما بعده أنه: {جَزَاء وفاقا} وفي المعنى وجهان: الأول: أنه تعالى أنزل بهم عقوبة شديدة بسبب أنهم أتوا بمعصية شديدة فيكون العقاب {وفاقا} للذنب، ونظيره قوله تعالى: {وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا} [الشورى: 40] والثاني: أنه {وفاقا} من حيث لم يزد على قدر الاستحقاق، ولم ينقص عنه وذكر النحوين فيه وجوهاً: أحدها: أن يكون الوفاق والموافق واحدًّا في اللغة والتقدير جزاء موافقاً وثانيها: أن يكون نصباً على المصدر والتقدير جزاء وافق أعمالهم {وفاقا} وثالثها: أن يكون وصف بالمصدر كما يقال فلان فضل وكرم لكونه كاملاً في ذلك المعنى، كذلك هاهنا لما كان ذلك الجزاء كاملاً في كونه على وفق الاستحقاق وصف الجزاء بكونه {وفاقا} ورابعها: أن يكون بحذف المضاف والتقدير جزاء ذا وفاق وقرأ أبو حيوة {وفاقا} فعال من الوفق، فإن قيل كيف يكون هذا العذاب البالغ في الشدة الغير المتناهي بحسب المدة {وفاقا} للإتيان بالكفر لحظة واحدة، وأيضاً فعلى قول أهل السنة إذا كان الكفر واقعاً بخلق الله وإيجاده فكيف يكون هذا وفاقاً له؟ وأما على مذهب المعتزلة فكان علم الله بعدم إيمانهم حاصلاً ووجود إيمانهم مناف بالذات لذلك العلم فمع قيام أحد المتنافيين كان التكليف بإدخال المنافي الثاني في الوجود ممتنعاً لذاته وعينه، ويكون تكليفاً بالجمع بين المتنافيين، فكيف يكون مثل هذا العذاب الشديد الدائم وفاقاً لمثل هذا الجرم؟ قلنا يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد.
واعلم أنه تعالى لما بين على الإجمال أن ذلك الجزاء كان على وفق جرمهم شرح أنواع جرائمهم، وهي بعد ذلك نوعان:
{إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27)}
وفيه سؤالان:
الأول:
وهو أن الحساب شيء شاق على الإنسان، والشيء الشاق لا يقال فيه إنه يرجى بل يجب أن يقال: إنهم كانوا لا يخشون حساباً والجواب من وجوه: أحدها: قال مقاتل وكثير من المفسرين قوله لا يرجون معناه لا يخافون، ونظيره قولهم في تفسير قوله تعالى: {مَالَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} [نوح: 13] وثانيها: أن المؤمن لابد وأن يرجو رحمة الله لأنه قاطع بأن ثواب إيمانه زائد على عقاب جميع المعاصي سوى الكفر، فقوله: {إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً} إشارة إلى أنهم ما كانوا مؤمنين وثالثها: أن الرجاء هاهنا بمعنى التوقع لأن الراجي للشيء متوقع له إلا أن أشرف أقسام التوقع هو الرجاء فسمى الجنس باسم أشرف أنواعه ورابعها: أن في هذه الآية تنبيهاً على أن الحساب مع الله جانب الرجاء فيه أغلب من جانب الخوف، وذلك لأن للعبد حقاً على الله تعالى بحكم الوعد في جانب الثواب ولله تعالى حق على العبد في جانب العقاب، والكريم قد يسقط حق نفسه، ولا يسقط ما كان حقاً لغيره عليه، فلا جرم كان جانب الرجاء أقوى في الحساب، فلهذا السبب ذكر الرجاء، ولم يذكر الخوف.
السؤال الثاني:
أن الكفار كانوا قد أتوا بأنواع من القبائح والكبائر، فما السبب في أن خص الله تعالى هذا النوع من الكفر بالذكر في أول الأمر؟ الجواب: لأن رغبة الإنسان في فعل الخيرات، وفي ترك المحظورات، إنما تكون بسبب أن ينتفع به في الآخرة، فمن أنكر الآخرة، لم يقدم على شيء من المستحسنات، ولم يحجم عن شيء من المنكرات، فقوله: {إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً} تنبيه على أنهم فعلوا كل شر وتركوا كل خير.
والنوع الثاني: من قبائح أفعالهم قوله: {وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28)}
اعلم أن للنفس الناطقة الإنسانية قوتين نظرية وعملية، وكمال الإنسان في أن يعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل به، ولذلك قال إبراهيم: {رَبّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بالصالحين} [الشعراء: 83] {هَبْ لِي حُكْماً} [الشعراء: 83] إشارة إلى كمال القوة، النظرية {وَأَلْحِقْنِى بالصالحين} إشارة إلى كمال القوة العملية، فههنا بين الله تعالى رداءة حالهم في الأمرين، أما في القوة العملية فنبه على فسادها بقوله: {إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً} [النبأ: 27] أي كانوا مقدمين على جميع القبائح والمنكرات، وغير راغبين في شيء من الطاعات والخيرات.
وأما في القوة النظرية فنبه على فسادها بقوله: {وَكَذَّبُواْ بآياتنا كِذَّاباً} أي كانوا منكرين بقلوبهم للحق ومصرين على الباطل، وإذا عرفت ما ذكرناه من التفسير ظهر أنه تعالى بين أنهم كانوا قد بلغوا في الرداءة والفساد إلى حيث يستحيل عقلاً وجود ما هو أزيد منه، فلما كانت أفعالهم كذلك كان اللائق بها هو العقوبة العظيمة.
فثبت بهذا صحة ما قدمه في قوله: {جَزَاءً وفاقا} [النبأ: 26] فما أعظم لطائف القرآن مع أن الأدوار العظيمة قد استمرت، ولم ينتبه لها أحد، فالحمدلله حمداً يليق بعلو شأنه وبرهانه على ما خص هذا الضعيف بمعرفة هذه الأسرار.
واعلم أن قوله تعالى: {وَكَذَّبُواْ بآياتنا كِذَّاباً} يدل على أنهم كذبوا بجميع دلائل الله تعالى في التوحيد والنبوة والمعاد والشرائع والقرآن، وذلك يدل على كمال حال القوة النظرية في الرداءة والفساد والبعد عن سواء السبيل وقوله: {كِذَّاباً} أي تكذيباً وفعال من مصادر التفعيل وأنشد الزجاج:
لقد طال ماريثتني عن صحابتي ** وعن حوج قضَّاؤها من شفأئنا

من قضَّيت قضَّاء قال الفراء هي لغة فصيحة يمانية ونظيره خرَّقت القميص خرَّاقاً، وقال لي أعرابي منهم على المروة يستفتيني: الحلو أحب إليك أم العِصَّار؟ وقال صاحب (الكشاف) كنت أفسر آية فقال بعضهم: لقد فسرتها فِسَّاراً ما سمع به، وقرئ بالتخفيف وفيه وجوه: أحدها: أنه مصدر كَذَّب بدليل قوله:
فصدقتها أو كذبتها ** والمرء ينفعه كذابه

وهو مثل قوله تعالى: {أَنبَتَكُمْ مّنَ الأرض نَبَاتاً} [نوح: 17] يعني وكذبوا بآياتنا فكذبوا كذاباً وثانيها: أن ينصبه بكذبوا لأنه يتضمن معنى كذبوا لأن كل مكذب بالحق كاذب وثالثها: أن يجعل الكذاب بمعنى المكاذبة، فمعناه وكذبوا بآياتنا فكاذبوا مكاذبة.
أو كذبوا بها مكاذبين.
لأنهم إذا كانوا عند المسلمين كاذبين، وكان المسلمون عندهم كاذبين فبينهم مكاذبة وقرئ أيضاً كذلك وهو جمع كاذب، أي كذبوا بآياتنا كاذبين، وقد يكون الكذاب بمعنى الواحد البليغ في الكذب، يقال رجل كذاب كقولك حسان وبخال، فيجعل صفة لمصدر كذبوا أي تكذيباً كذاباً مفرطاً كذبه.
واعلم أنه تعالى لما بين أن فساد حالهم في القوة العملية وفي القوة النظرية بلغ إلى أقصى الغايات وأعظم النهايات بين أن تفاصيل تلك الأحوال في كميتها وكيفيتها معلومة له، وقدر له ما يستحق عليه من العقاب معلوم له، فقال: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29)}.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
قال الزجاج: {كُلَّ} منصوب بفعل مضمر يفسره {أحصيناه} والمعنى: وأحصينا كل شيء وقرأ أبو السمال، وكل بالرفع على الابتداء.
المسألة الثانية:
قوله: {وَكُلَّ شيْء أحصيناه} أي علمنا كل شيء كما هو علماً لا يزول ولا يتبدل، ونظيره قوله تعالى: {أحصاه الله وَنَسُوهُ} [المجادلة: 6] واعلم أن هذه الآية تدل على كونه تعالى عالماً بالجزئيات، واعلم أن مثل هذه الآية لا تقبل التأويل: وذلك لأنه تعالى ذكر هذا تقريراً لما ادعاه من قوله: {جَزَاءً وفاقا} [النبأ: 26] كأنه تعالى يقول: أنا عالم بجميع ما فعلوه، وعالم بجهات تلك الأفعال وأحوالها واعتباراتها التي لأجلها يحصل استحقاق الثواب والعقاب، فلا جرم لا أوصل إليهم من العذاب إلا قدر ما يكون وفاقاً لأعمالهم، ومعلوم أن هذا القدر إنما يتم لو ثبت كونه تعالى عالماً بالجزئيات، وإذا ثبت هذا ظهر أن كل من أنكره كان كافراً قطعاً.
المسألة الثالثة:
قوله: {أحصيناه كتابا} فيه وجهان: أحدهما: تقديره أحصيناه إحصاء، وإنما عدل عن تلك اللفظة إلى هذه اللفظة، لأن الكتابة هي النهاية في قوة العلم، ولهذا قال عليه السلام: «قيدوا العلم بالكتابة» فكأنه تعالى قال: وكل شيء أحصيناه إحصاء مساوياً في القوة والثبات والتأكيد للمكتوب، فالمراد من قوله كتاباً تأكيد ذلك الإحصاء والعلم، واعلم أن هذا التأكيد إنما ورد على حسب مايليق بأفهام أهل الظاهر، فإن المكتوب يقبل الزوال، وعلم الله بالأشياء لا يقبل الزوال لأنه واجب لذاته القول الثاني: أن يكون قوله كتاباً حالاً في معنى مكتوباً والمعنى وكل شيء أحصيناه حال كونه مكتوباً في اللوح المحفوظ، كقوله: {وَكُلَّ شيْءٍ أحصيناه فِي أمام مُّبِينٍ} أو في صحف الحفظة.
ثم قال تعالى: {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30)}
واعلم أنه تعالى لما شرح أحوال العقاب أولاً، ثم ادعى كونه {جَزَاءً وفاقا} [النبأ: 26] ثم بين تفاصيل أفعالهم القبيحة، وظهر صحة ما ادعاه أولاً من أن ذلك العقاب كان {جَزَاءً وفاقا} لا جرم أعاد ذكر العقاب، وقوله: {فَذُوقُواْ} والفاء للجزاء، فنبه على أن الأمر بالذوق معلل بما تقدم شرحه من قبائح أفعالهم، فهذا الفاء أفاد عين فائدة قوله: {جَزَاءً وفاقا}.
المسألة الرابعة:
هذه الآية دالة على المبالغة في التعذيب من وجوه: أحدها: قوله: {فَلَن نَّزِيدَكُمْ} وكلمة لن للتأكيد في النفي وثانيها: أنه في قوله: {كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً} [النبأ: 27] ذكرهم بالمغايبة وفي قوله: {فَذُوقُواْ} ذكرهم على سبيل المشافهة وهذا يدل على كمال الغضب وثالثها: أنه تعالى عدد وجوه العقاب ثم حكم بأنه جزاء موافق لأعمالهم ثم عدد فضائحهم، ثم قال: {فَذُوقُواْ} فكأنه تعالى أفتى وأقام الدلائل، ثم أعاد تلك الفتوى بعينها، وذلك يدل على المبالغة في التعذيب قال عليه الصلاة والسلام: «هذه الآية أشد ما في القرآن على أهل النار، كلما استغاثوا من نوع من العذاب أغيثوا بأشد منه».
بقي في الآية سؤالان:
السؤال الأول:
أليس أنه تعالى قال في صفة الكفار: {وَلاَ يُكَلّمُهُمُ الله وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ} [آل عمران: 77] فهنا لما قال لهم: {فَذُوقُواْ} فقد كلمهم؟ الجواب: قال أكثر المفسرين: تقدير الآية فيقال لهم: فذوقوا، ولقائل أن يقول على هذا الوجه لا يليق بذلك القائل أن يقول: {فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً} بل هذا الكلام لا يليق إلا بالله، والأقرب في الجواب أن يقال قوله: {وَلاَ يُكَلّمُهُمُ} أي ولا يكلمهم بالكلام الطيب النافع، فإن تخصيص العموم غير بعيد لاسيما عند حصول القرينة، فإن قوله: {وَلاَ يُكَلّمُهُمُ} إنما ذكره لبيان أنه تعالى لا ينفعهم ولا يقيم لهم وزناً، وذلك لا يحصل إلا من الكلام الطيب.
السؤال الثاني:
دلت هذه الآية على أنه تعالى يزيد في عذاب الكافر أبداً، فتلك الزيادة إما أن يقال: إنها كانت مستحقة لهم أو غير مستحقة، فإن كانت مستحقة لهم كان تركها في أول الأمر إحساناً، والكريم إذا أسقط حق نفسه، فإنه لا يليق به أن يسترجعه بعد ذلك، وأما إن كانت تلك الزيادة غير مستحقة كان إيصالها إليهم ظلماً وإنه لا يجوز على الله الجواب: كما أن الشيء يؤثر بحسب خاصية ذاته، فكذا إذا دام ازداد تأثيره بحسب ذلك الدوام، فلا جرم كلما كان الدوام أكثر كان الإيلام أكثر، وأيضاً فتلك الزيادة مستحقة، وتركها في بعض الأوقات لا يوجب الإبراء والإسقاط، والله علم بما أراد. اهـ.